الاتجاه الأخلاقي في تشريعات الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
الاتجاه الأخلاقي في تشريعات الإسلام
في الوسائل والغايات
د. معاذ سعيد حوا
مقـدِّمة
ـ جاء ديننا الحنيف ليدعو إلى كل خير، فهو لا يرتضي الشر، ولا يقرّ الباطل، لذلك سمى الله ما ندعو إليه من هذا الدين خيراً، حيث قال: ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ﴾، فعلى كل مسلم حاكماً أو محكوماً أن يدرك هذه الخيرية، وأن يرجع إليها، حتى نكون أهلاً لنصرة ديننا ونشره وبث أخلاقه السامية بين الناس.
وجاءت جميع تشريعات هذا الدين أخلاقية، من حيث هي وسائل، فكانت جميلة راقية صحيحة تقبلها العقول السليمة وترغب بها، كما كانت المقاصد والغايات من تلك الوسائل صحيحة وجميلة ومعقولة.
ولم يترك الشرع لنا الحرية في أن نخترع وسائل لتحقيق الغايات، لنخترع وسائل منحرفة أو غير مقبولة أو غير أخلاقية، بل شرع لنا من الوسائل ما هو أخلاقي، وأمر أهل العلم بأن يختاروا من الوسائل ما هو أخلاقي موافق لأخلاقيات الشريعة فيما لم تفصّله الشريعة، لتحقيق الغايات السليمة السامية النبيلة.
ـ والأخلاق التي راعاها الإسلام في تشريعاته، هي ثابتة بثبات عقيدته، لأن الأخلاق إنما هي فرع منبثق عن العقيدة، فلا يمكن أن يتخلى المسلم الحق عن أخلاقياته، لأنه حينما يتخلى عن أخلاقياته كما تخلى عن عقيدته، وابتعاد الأمة عن أخلاقها أثر من آثار ابتعاد الأمة عن ثقافتها المكونة من عقيدتها وشريعتها، ذلك أن كل خلق في أي أمة إنما هو ثمرة وأثر عن عقيدتها ومبادئها وثقافتها.
فالمسلم ـ مثلاً ـ يحرص على الصدق وتركِ الكذب، لأن كلمة الصدق حق، تطابق الواقع الذي يتحدث عنه، وتحريف الحق وتحويله إلى باطل أو تحويلُ الباطل إلى حق أمر مرفوض بحد ذاته، وهذا راجع إلى أصل في ثقافة المسلم وعقيدته، هو أن تبديل الحقائق وقلب الأمور مفسدة لا تصلح معها الحياة، ولا يكون معها استقرار ولا أمن ولا ثقة، فكيف تتفاهم البشرية إذا كان ما يتكلمون به على غير حقيقته، ثم إن كل تصرف يُبنى على الكذب لا يكون سليماً، فتسير الحياة في بنائها بناءً منحرفاً باطلاً، فطلب المسلم للحق الذي به يسير إلى السلامة والنجاة والصواب؛ يدفعه إلى الصدق في كل موقف من مواقف حياته وفي كل كلمة من كلماته، ويدفعه إلى تجنب الكذب صغيره وكبيره، في سلوكه ومعاملاته، بل حتى فيما يحدث به نفسه.
بينما تجد من ليس له إيمان قد يكون صادقاً، لكن صدقَه يعود إلى مبدإ أخر من ثقافته وعقيدته، فتجده يصدق في موعده، ويصدق في وصف سلعته، ويصدق في أداء عمله، لا لأن الصدق مرغوبٌ بذاته عنده، بل لأن صدقَه هذا يحقق له مصلحة مادية، وهو يعيش لدنياه ومادتها ويعبدها، فهي عقيدته وثقافته، فمنها أخذ صدقه.
خلق الكرم والتضحية بالمال عند المسلم مبني على عقيدته بأن الله هو الرزاق المعطي النافع الكريم الذي يخلف على من أعطى لله، ومبني على التوكل على الله والثقة به، فكيف يخاف من الفقر وهو عبد الغني، وهو مع الغني سبحانه.
وخلق الشجاعة مبني على الثقة بالله والاعتماد عليه والحضور معه، فكيف يخاف وهو في كَنَف القوي، وهو مع الحفيظ سبحانه، وكيف يكون جباناً عن الحق وجباناً عن مقارعة الباطل؛ وهو يعلم أن الله هو الذي يملك ما في السموات وما في الأرض، ولا يملك أن يؤذيه أحد إلا بإذن الله « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك » .
وخلق العفة مبني على تأليه الله وأن الحكم لله، وليس الحكم للنفس وما تشتهي، ومبني على عقيدة المؤمن بأن الله يراه، فكيف لا يستحيي من السفاسف والرذائل بين يديه، فيمتلئ قبل بالمسلم بحب الطهارة وسمو النفس وعدم خضوعها لشهواتها وعبادتها لها.
وخلق التواضع له ارتباط بالإيمان بالغيب، حيث لا يدري الإنسان من يكون دونه عند الله ومن يكون فوقه، فهو يتواضع لجميع المسلمين والمؤمنين احتراماً لإيمانهم.
وهكذا، فكل أدب يتأدب به المسلم ويتخلق به فهو راجع إلى عقيدته، وثابت بثباتها، ودائم بدوامها، والتشريعات حينما تحمل أخلاق المسلم وتحتوي ظلال عقيدته؛ فهو يحرص عليها بقدر حرصه على عقيدته وبقدر إيمانه بها، ولا ينبغي أن يكون عند المسلم نقص في اعتقاده وإيمانه.
ـ إننا نعلم جزماً بأن هذا الدين الإسلامي هو من عند الله، كما أنزله الله، بقي كما هو ببقاء كتابه ودستوره القرآن الكريم، وببقاء السنة المشرفة، التي يمكن تمييز صحيحها الثابت عما لم يثبت منها، ونعلم ذلك جزماً وعندنا الحجج الدامغة الدالة على صدق النبي  صلى الله عليه و سلم وصدق نسبة القرآن الكريم إلى الله وصدق نسبة السنة إلى الرسول محمد  صلى الله عليه و سلم ، بما قامت من معجزات لهذا النبي  صلى الله عليه و سلم وبما كان هذا القرآن معجزة كبرى للبشرية، باقية، بل هو معجزات كثيرة عظمى، بأسلوبه ونظمه ومعانيه وهدايته وإعجازه العلمي وغير ذلك.
إننا إذ نعلم أن هذا الدين هو دين الله، شرعه الله، وحكم به على عباده وخلقه؛ لا يمكن أن نتصور أن يكون منفكاً عن الأخلاق، فإن الله تعالى هو المتصف بأسمى الصفات وأقدسها، وهو الذي يجب أن يكون على الكمال في صفاته وجماله، فلا يمكن أن يكون إلهاً ورباً إذا لم يكن على الكمال في صفاته وأسمائه.
فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون الإله ظالماً، وهو الذي لا نوازغ ولا شهوات ولا ضعف عنده، فلا يظلم في أحكامه، ولا يظلم خَلْقَه.
ولا يتصور أن يكون غير حليم، والخلق عياله وخلقه ومملكته.
ولا يتصور أن يكون مريداً لإعنات البشر ومشقتهم التي لا يستطيعونها، فليس ذلك من الحكمة والعدل، والله لا يكون إلا حكيماً عادلاً.
ولا يتصور أن يكون الإله بخيلاً، وهو الذي يملك كل شيء، ويقدر أن يعطي كل شيء، ويستطيع أن يخلق ما يُكرم به من غير تعب ولا وصب.
ولا يتصور أن يكون مريداً للشر، فإن إرادة الشر عيب في المخلوق فكيف تكون صفةً للخالق.
ولما كانت هذه الشريعة هي من عند الله؛ فلا يمكن أن يتصور أن فيها شيئاً من الظلم والشطط والشهوة والباطل، وكذلك كل الشرائع التي نزلت من عند الله، لكنه واضح من مطالعة كتب تلك الشرائع أنها لم تبق على ما أنزلت عليه، فالتحريف فيها واضح، والباطل فيها واضح في كثير من مواضعها، كما جاء قرآننا الثابت ليقرر هذه الحقيقة ويؤكد تحريف أهل تلك الكتب لها، فليس ثمة مقارنة بين تلك الشرائع وهذه الشرايعة في صفائها وبقائها على الحق.
وحتى لو افترضنا بقاءها على الحق، فقد أراد مُنْزِلها سبحانه أن ينسخها وينهي العمل بها بهذه الشريعة الإسلامية، وكل ذلك قد قامت الحجة عليه، وبينها أهل العلم في كتب التفسير وكتب الحديث وكتب العقيدة وكتب علوم القرآن، بما لا يدع مجالاً للشك.
ـ إننا إذ نتكلم عن الأخلاقيات أو الاتجاه الأخلاقي في تشريعات الإسلام فإنما نعني بالأخلاقيات: تلك الصفات الحسنة الجميلة الطيبة الممدوحة التي تَرسَخ في النفس، فتصدر عنها الأفعال الصالحة بسهولة ويسر، فمن رسخت في نفسه صفة الحلم؛ كان من السهل عليه أن يتجنب الغضب في أي موقف، ومن رسخت في نفسه صفة التسامح؛ كان من السهل عليه أن يتجنب المشاجرة والتشديد في أي معاملة، ومن رسخت في نفسه صفة العدل؛ كان من السهل عليه أن يتجنب ظلم الآخرين في أي سلوك وتعامل.
ونعني بالتشريعات: تلك الأحكام الظاهرة التي أمرتنا الشريعة الإسلامية أن نتعامل بها أو نتعبد الله تعالى بها، وهي الأحكام التي تُبيَّن في علم الفقه الإسلامي، سواء في العبادات أو المعاملات المالية أو الأحوال الشخصية أو أمور الدولة والحكم.  
وها نحن في هذا المقال نبين جانباً من أهم أحكام هذا الدين وما تحتويه من أخلاقيات.
المطلب الأول
أخلاقيات في تشريعات العبادات
نجد المعنى الأخلاقي واضحاً في سائر العبادات، ويزداد وضوحاً وخفاءً بحسب ما يمعن الإنسان الفكر والبحث عن تلك المعاني الأخلاقية في عبادته.
وليس مقصودنا استقصاء ذلك وجمع ما قاله أهل العلم في هذا الشأن، وإنما نريد أن نلفت النظر إلى بعض تلك الأمور مما هو واضح:
من أخلاقيات الصلاة
ـ إن الله تعالى فرض الصلاة على خلقه، وهي تحقق المقصود الأعلى من خلق الإنسان، وهو العبودية، وأعظم خُلُق يتخلق به الإنسان وأعظم أدب يتأدب به هو الأدب الذي يتأدبه مع خالقه، وهو أدب العبودية، فإقامة الصلاة التي هي أهم الفرائض، ما هو إلا تعبير عن أدب العبودية وخُلُقِ الذلة والإنكسار لله تعالى، شكراً له على فضله على عبده ومملوكه، إذ خلقه وهداه وزيَّنَه بالعقل وأعطاه السمع والبصر والقلب، وأعطاه نعمة اليد والرجل، وسخر له الكون، وأرسل له الرسل وأنزل له الكتب، وهيأ له الجنة، وفتح له باب التقرب إلى الله ومعرفته، فالصلاة وسائر العبادات إنما هي وسائل لأعظم غاية.
ـ ومن نظر في معنى الوقوف بين يدي الله ومعنى الركوع لله ومعنى السجود بين يديه يجد معنى التذلل والافتقار والعبودية واضحاً، وهو أرقى الأخلاق، فإن من كان خلوقاً مع الناس وأديباً معهم، ولم يكن متأدباً بالخلق الذي يجب التأدب فيه مع الخالق؛ لا يُعد خلوقاً، ألا ترى أن من يتأدب مع الناس ولا يتأدب مع والده؛ فإنه لا قيمة لأدبه مع الناس وإنما هو مصلحة وغش ونفاق، فكيف بمن لا يتأدب مع مالكه وخالقه.  
ـ شرع الله تعالى صلاة الجماعة في كثير من الصلوات، وخاصة الفريضة منها، في كل يوم خمس مرات، وهذا الاجتماع في المساجد يحقق أخلاقيات عدة إذا كان على وجهه، بأن يقوم المصلي بالتعرف على إخوانه المصلين، والتواصل معهم في الخير، والتعاون معهم على البر، والتعرف على مشكلاتهم وحاجاتهم والتعاون مع إخوانه المصلين في حلها وقضائها لإخوانهم الذين يحتاجون عونهم.
وقد كان النبي  صلى الله عليه و سلم إذا اطّلع على مشكلة أحد المصلين، ولم يستطع أن يحلها، طرحها على إخوانه الصحابة ليشاركوا في حلها، فيدعوهم إلى الصدقة أحياناً، ويدعوهم إلى إطعام جائع أحياناً أخرى، أو تيسير عمل لعاطل، أو غير ذلك.
ـ والمسجد الذي يحرص المسلم على أن يصلي فيه هو مركز لصنع الأخلاق، فالمسجد يحتوى على حلقات تعليم وإرشاد وتزكية أهمها خطبة الجمعة، ترفع المستوى الأخلاقي والسلوكي عند المصلين في كل شيء؛ في معاملاتهم المالية والشخصية، وعلاقاتهم الاجتماعية، وعباداتهم ...
من أخلاقيات الصيام
ـ الصيام يجعل الإنسان يتجرد عن شهواته لله سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي: « يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله »(1).
والإنسان حين يتجرد عن شهواته تسمو نفسه وتسمو أخلاقه عن النظر إلى السفاسف، فيترفع عن الشره في الطعام، ويترفع عن الميل إلى الشهوات الجنسية، وإذا سما تفكير الإنسان وخاطره عن هذه الأمور فلا شك أنه يصير أنصع فكراً وأصفى قلباً، فينعكس ذلك على حاله كله، فيظهر نضوج الفكر وسلامته من المؤثرات النفسانية والإثارات الشهوانية، وينشغل الإنسان بما ينفع بدلاً من أن يشتغل بشهواته ويضيع أوقاته وعمره، وحين يكون شباب الأمة متحرراً من شهواته ينعكس ذلك على المجتمع عمارة ونفعاً وحضارة وتقدماً، بدلاً من أن تضيع طاقات الشباب في ما لا خير فيه، فكان الصيام بذلك صانعاً لأخلاقيات عظيمة.
ـ الصيام يذكر الصائم بالفقير والمحتاج والمعوز، الذي لا يجد حاجته، والذي يشعر بالجوع حيناً وحيناً، فينطلق الرفق والحنان من قلب الصائم لأمثال هؤلاء، ليحرص على الصدقة عليهم، والإحسان إليهم، والبحث عنهم، فيلقي الصيام بظلال من الشعور بالآخر، كما هو واضح في بلاد المسلمين في رمضان.  
من أخلاقيات الزكاة
ـ شرع الله تعالى الزكاة رحمة وتكافلاً، لحل مشكلات كثيرة في المجتمع، أهمها مشكلة الفقر، وندب سبحانه إلى الصدقة بعد ذلك، ليكون المجتمع متداولاً للمال يقضي حوائج الناس جميعاً، لا ينحصر في يد فئة تتحكم بالناس بحكم غناها وحاجة الفقراء إلى أموالها.
ـ والمؤمن يزكي ماله ويتصدق به ويرى للفقير الذي أخذ المال مِنَّة عليه، لأنه لولا وجود الفقراء لما كان من المتصدقين ولما كان له أجر الصدقة، فلا يلتفت إلى أنه صاحب فضل ولا يتمنن على الناس بصدقاته وعطاياه، بل يحتسبها عند الله، وينمي فيها إحساسه الإنساني وشعوره بأبناء جنسه، الذين يمكن أن يتحول حاله يوماً إلى مثل حالتهم فيصير فقيراً يحتاج غيره.
ـ والصدقة والزكاة تذكر صاحبها بأنه لم يوجد في الدنيا ليكون عبداً للمال، يبحث عنه وينشغل به، بل ليكون عبداً لله يستعمل المال لله ولمراد الله، فالمال ما وضعه الله في الدنيا إلا اختباراً للإنسان، ليرى إنسانيته وحنانه على الآخرين، وحسن استعماله المال في طاعة الله ونصرة دينه.
من أخلاقيات الحج
ـ الحج مجمع لمجتمعات المسلمين يتيح تعارفاً وتناقلاً للأخلاقيات والطبائع السليمة، فيستفيد الحاج من إخوانه تعرُّفاً على الخير فيأخذه، ويتعرف على الشر فيجتنبه وينصح فاعله.
ـ ثم إن الحج يتيح لقاء العاملين لدينهم، والمهتمين بأمتهم، فيفتح باب التعاون والتناصر على الحق والألفة والوحدة والتجميع بين المسلمين، فيه تتلاقح الأفكار ويُتعرف على الوسائل العملية الجيدة في مناحي الحياة المختلفة.
ـ وفي الحج تزول الطبقية وأسباب العنصرية والفرقة، فيجتمع الأبيض مع الأسود مع الأحمر مع الأصفر، ويجتمع أصحاب اللغات معاً على تآلف ومحبة، ويجتمع أصحاب البلاد شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ووسطها، وكأنهم بلد واحد، بإيمان واحد وعبادة واحدة ولباس واحد وقلوب واحدة.
المطلب الثاني
أخلاقيات في تشريعات المعاملات المالية
ـ بين الله تعالى ونبيه  صلى الله عليه و سلم لنا أخلاقنا التي ينبغي أن تكون منطبعة في سلوكياتنا كلها، فأمرنا بالصدق والوفاء والصبر والحلم والعفة والعدل والإنصاف والتواضع والكرم والنصيحة والمروءة وسلامة الصدر وحسن الظن والإيثار والعفو والصفح والرحمة والأناة، وغير ذلك من الأخلاق التي تجمع البشرية على جمالها وجمال أصحابها.
ـ وظهرت كثير من هذه الأخلاق في التشريعات التي شرعها الله تعالى في المعاملات المالية:
فأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود والوعود جميعها، فكان للعقود والبيوع قوتها الإلزامية.
وأمر الله سبحانه ورسوله  صلى الله عليه و سلم بالصدق وصدق الوعد والتقيد به، فكان للعقود ثباتها، ومنع التحايل للوصول إلى الحرام، ومنع التعسف في استعمال الحق، ومنع التناجش في البيوع.
وأمر بالرفق بمن يستأهل الرفق، فشرع إعسار المعسر في دَيْنه، وإقالة العاثر في بيعه، وشرع الخِيار للتأكد من تحقيق المبيع لحاجة المشتري ورغبته، ومنع تلقي الركبان إرفاقاً بأهل المدن، ومنع الربح الفاحش وخاصة في الحاجات الأساسية والضرورية.
وأمر بالوضوح الذي يسبب الألفة ويمنع الخلاف والمنازعة، فمنع الجهالة في الأثمان والأجرة وأوصاف المبيع، ومنع إخفاء العيب في المبيع، ومنع الغش والغرر.
وأمر النبي  صلى الله عليه و سلم بالنصح للمسلم والعفة عن استغلال الناس، فمنع استغلال حاجة المسلم، والبيع على بيعه، ومنع بيع المضطر، ومنع الاحتكار، ومنع بيع الحاضر للبادي حتى لا يستغل جهله بالثمن في المدينة، ومنع استغلال الظروف الطارئة لأكل حق الغير أو تفويته أو إرهاقه.
ومنع الربا منعاً للاستغلال الذي يخرج عن طور التجارة، التي تحتمل الربح والخسارة، فمنع الربا الذي يضمن فيه المرابي نمو ماله ولو على حساب الفقراء المحتاجين إلى المال والدين، فيزيد الغني غنى، ويزيد الفقراء فقراً.
وأمر الله بالعدل والإنصاف، فشرع إعطاء الأجير حقه وعدم تأخير أجرته، ومنع الظلم وأكل مال الغير بالباطل كالربا، وأخذ ثمن الثمار المبيعة قبل أن تنضج، ومنع الرشوة، ومنع مطل الغني وتأخره عن السداد لغير عذر.
وأمر سبحانه بالتعاون على البر، فأمر بمعاونة العبيد والأجراء في أعمالهم وعدم إرهاقهم فيها.
وشرع القضاء والصلح والتسامح، ليعيد الألفة إذا أفسدتها المعاملات.
ـ كل ذلك وغيره لتحقق المعاملات مصالح الإنسان والإنسانية، وتحقق مصلحة الأفراد والمجتمع معاً بحيث لا يستغل الفرد غيره، ولا يأكل المجتمع حقه الفرد وملكيته.
على وجه تكون فيه الوسائل جميلة مشروعة، تحقق غايات جميلة مشروعة.
بتوازن بين حق الفرد وحق المجتمع، يعطي الإنسان حريته في ملكه، ويقيده حيث ينبغي تقييده، لئلا يكون جشعاً مستغلاً للمجتمع، ولئلا يكون أنانياً غير إنساني، وحتى لا ينسى أنه فرد بين مجتمع يحتاجهم ويحتاجونه، يتعاونون معاً لمصلحة الجميع ولتحقيق المقصد الذي خلقوا له من عمارة الدنيا على وفق حكم الله بمحبة وتعاون وتكاتف.
المطلب الثالث
أخلاقيات في تشريعات الأحوال الشخصية والأسرية
ـ إن تشريع الزواج لهو سبيل تحقيق خلق من أسمى الأخلاق وهو العفة، حيث يكتفي الإنسان بما يقضي شهوته وحاجته ويعف عن نساء الناس، وقد كمّل الله هذا التشريع بأن أوجب على النساء الحجاب وعلى الرجال غض البصر، فضلاً عن الخلوة والخلطة اللتين تفتحان باب الفتنة، وفضلاً عن الزنا، ليعيش الإنسان لأهدافه السامية ولا ينشغل بالشهوات عما خلق له، ويجد في الزواج المباح ما يقضي حاجته الجسدية والنفسانية من الشهوة، كما أن الزواج وما يترتب عليه من تناسل سبب في بقاء النوع الإنساني.
والله تعالى إذ حرم الزنا واللواط والسحاق، فإنما منع باب الشهوة والفتنة، وحفظ الأسرة لتبقى النسيج الذي يرعى فيه القرابة بعضهم ويتكافلون فيه ويتعاطفون، إضافة إلى التعاطف الإيماني في المجتمع المسلم.
بينما نجد الأمم التي فتحت باب الزنا والفاحشة قد تهدمت عندها العلاقات الأسرية، حتى بين الأب وأبنائه، والأم وأبنائها، والأخوة وأخواتهن ... ولم يعد للإنسان من يلجأ إليه ليكفله ويتولى أموره إذا مرض أو احتاج، ولا من يتولى مواساته إذا أصيب أو ابتلي.
ـ وإذ شرع الله تعالى في الزواج مهراً، فقد حث على عدم الاستغلال في المهور، حتى لا يكون ذلك عائقاً دون تزويج الشباب في سن الحاجة إلى الزواج.
كما سهل الشارع الحكيم عملية الزواج لتغني المجتمع عن التطلع إلى الحرام في العلاقات، فندب إلى الموافقة على تزويج الخاطب إذا توفر فيه حسن الدين والخُلُق، وليس من الإسلام ما نراه في مجتمعنا من عوائق مالية وشكلية ترهق الزوج أو الخاطب وتسبب تأخر زواج الجنسين، مما يجعل الشباب يعيشون فترة طويلة من المراهقة والمعاناة تدفع بعضهم نتيجة كثرة الإثارات الجنسية إلى الحرام أو تشغله في مدافعة الحرام.
ـ وكرِه الله الطلاق، ولكنه أباحه حلاً لمشكلات الزوجين التي لا مخرج منها، حتى لا تعيش الأسرة حياتها جحيماً.
ـ إن الإسلام إنما أراد للزوج حياة السعادة والتعاون والتفاهم والمودة والتراحم والبناء، فأوجب الله على الزوجين حسن العشرة فيما بينهما، من حسن الكلمة والبسمة، وعفة كل طرف الطرف الآخر بقضاء شهوته، والتعاون على حاجات الحياة وضرورياتها، والتعاون على تربية الأبناء بالتكامل والتناوب بين الأبوين.
ـ كما شرع الله توازناً وتكاملاً بين الرجل والمرأة في المهام، وخلق كل جنس بما يتفق مع المهام التي أوكلها إليه، فأراد الله للرجل أن يكون العامل خارج البيت والساعي على الرزق فأعطاه القوة والجَلَد على ذلك، وجعله أَمْيَلَ إلى استعمال العقل، وأراد للمرأة أن تكون العاملة في البيت، فأمرها بالقرار فيه، وعدم الخروج لعمل إلا لضرورة، ضمن ضوابط تحفظ عرضها وأدبها ودينها وحقوقها، وجعلها أميل إلى استعمال العاطفة لتكون سكناً للزوج ومربية حنونة للأطفال.
ـ كما شرع الله الميراث لأقارب الميت، بما يتفق مع طبيعة وظيفة كل من الجنسين، فالرجل المكلف بالإنفاق زاده في الميراث على المرأة التي لا تكلف بالإنفاق على غيرها.
ـ كما حافظ الإسلام على صلات القرابة والعشيرة وحث عليها بما يحقق التعاون علىالحق والمصلحة المشتركة للعشيرة والقرابة، ومنع الإسلام كل ما هو من الجاهلية والعصبية والتعاون على الباطل بين القرابة والعشيرة، وشرع الإسلام ما يحافظ على ذلك من علاقات عائلية وتربية وحضانة ونفقة وكفالة وصلة رحم وميراث وغير ذلك.
فكان مما شرع الإسلام التعاون على النفقة، بحيث يتولى الإنفاق على المحتاج في العائلة أقرب الناس إليه من القادرين على قضاء حاجته المالية، أو تتعاون العائلة والعشيرة على ذلك، كل بحسب قدرته، وكان من جملة ذلك أنه إذا قَتَلَ أحدُ الناس قتيلاً بالخطإ، فإنه يتعاون مع عاقلته على الدية.
ـ وشرع لنا إذا جاءنا سائل أن نسأل عنه ثلاثة من كبراء قومه، فإن أقروا بفقره ولم يستطيعوا حمله والإنفاق عليه من خلال عشيرته؛ فعندئذ يجوز له أن يسأل ويصير من واجب المسلمين أن يقوموا بحاجته، وبهذا يكون كل مسلم عنده تأمين اجتماعي وصحي تلقائي يقوم به تلقائياً قرابته الأقرب فالقريب، من عشيرته، حتى يصل إلى كل المسلمين، وبذلك لا يصح أن يوجد أي مسلم محتاجاً، إلا وقد حلت مشكلته وقضيت حاجته من خلال النفقة أو الصدقة أو الزكاة أو غير ذلك، وإذا حافظ المسلمون على هذا فلا حاجة لوجود شركات تأمين اجتماعي وصحي وغيره في مجتمع المسلمين، ولما تخلف المسلمون عن هذه الأخلاقية الدينية المشروعة في دينهم؛ صاروا يتوجهون إلى ما حرم الله من صور التأمين الحالي التي فيها الكثير من الإشكالات الشرعية.
المطلب الرابع
أخلاقيات في الحكم
ـ كما نجد أخلاقيات في التشريعات التي تخص الفرد في عبادته ومعاملاته والتي تعم في قرابته وأسرته؛ نجد أخلاقيات في تشريعات الإسلام التي تعم المجتمع والتي يقوم بها نظام الحكم.
ـ ومن واجبات الحكام بالتعاون مع العلماء إقامة الدين وتعليم الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أعظم سبل إقامة الأخلاق والحفاظ على الأخلاق سليمة في المجتمعات.
ـ فمن وظائف الحكام: أن يعملوا لمصالح الشعوب ضمن إطار أخلاقِ: العدل والمساواة والحرية، بحيث يكون العدل شاملاً للجميع، يوفر الحماية من الظلم للجميع، وبحيث تكون المساواة تراعي الفوارق، وتحترم الاجتهادات المختلفة بين أهل الفكر في المجتمع، وبحث تكون الحرية فيها من التوازن بحيث لا تكون حرية الفرد على حساب حرية المجتمع ولا العكس.
ـ ومن وظائف الحاكم في الإسلام أن يقيم العقوبات التي تحفظ المجتمع من الظلم والفوضى وانتشار الجريمة، ومهما تفكرت العقول فلن يكون ما تختاره من عقوبات خيراً مما اختاره الله، وهو الأعلم بما يصلِح ويزجر خلقه، وهو الأرحم بهم، وإذا نظرتَ إلى الشدة من جانب العقوبة بالفرد المجرم؛ فعليك أن تنظر إلى جانب الرحمة العامة في حفظ المجتمع بأفراده الكثيرين.  
ـ شرع الله للمسلمين الدعوة إلى دينهم، لأنه دينه الحق، لأنه دين الخالق المالك لكل شيء ولكل الناس، فمن حقه سبحانه وهوالمالك الحاكم أن يفرض الحكم الذي يريده في خلقه وعباده، وهو هذا الدين، دين الإسلام، والمسلم يملك الأدلة الواضحة من خلال العقل والمعجزات على صحة دينه، وأنه دين الله، وأن القرآن كتاب الله، وأن محمداً رسول الله  صلى الله عليه و سلم .
ـ والمسلم الحق من سمو أخلاقه أنه يبذل جهده وماله ووقته لأجل غيره، لينقذه من النار، ولِيَدُلَّه على الحق وطريق النجاة، فما أعظم خلق الرحمة عند المؤمن، يترك دنياه وأعماله وأهله لأجل غيره.
وإذا سمح الكفار لنا أن نوصل كلمة الله و أن نعطي الحجة على صحة ديننا؛ فلا حاجة لنا إلى أكثرَ من الدعوة، أما إذا وُجِد من الظالمين والطواغيت من يَحُول دون هذه الدعوة الحق، فإن الله تعالى شرع لنا الجهاد لأجل دينه والحق الذي بعث به رسله، وهذا الجهاد في حد ذاته هو صورة من الصور الأخلاقية عند المسلمين، وبيان ذلك:
ـ أن من أعظم الأخلاق خُلُق الرحمة، وقد بُعث النبي  صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين، فكان من ضمن رحمته جهادُه  صلى الله عليه و سلم ، فإنه قد شَرَع لنا أن نبذل أموالنا ونضحي بأنفسنا بأن نعرضها للموت، لأجل إنقاذ غيرنا ودعوتهم إلى الإيمان بالله خالقهم ومالكهم، ودعوتهم إلى دين ربهم الحق، من أجل أن ننجيهم وندلهم على طريق النعيم والجنة، فأي خُلُق أعظم من هذا الخلق والرحمة، رحمةٍ بالغير، يضحي معها صاحبها بماله ونفسه لأجل غيره، فما كان الجهاد إلا لهذا، وإلا للدفاع عن النفس وعن أهل الإيمان.
وبهذا كان الجهاد وسيلة مشروعة لأعظم غاية مشروعة.
ـ وقد ينظر الآخرون إلى تشريع الجهاد في الإسلام على أنه إرهاب، لأنهم يجهلون أننا نجاهد ونقاتل لله، ولدين الله، لأنه الرب الخالق المالك الحاكم، فمن واجب المسلم أن يبين للكافر هذه الحقائق التي نقاتل لأجلها قبل أن نستعمل القوة والحرب بيننا وبينه؟
ـ كما أننا لا ننسى أن كل بلد قوي في الدنيا عبر التاريخ، يحاول أن يفرض ثقافته على الأمم الأخرى التي يستطيع أن يقاتلها، وهكذا تفعل بعض القوى العظمى اليوم، والمسلم ليس ممن يفرض ثقافته التي أنشأها بعقله أو شهوته، وإنما يتجرد المسلم عن ذلك، ليدعو إلى الثقافة الربانية التي هي من عند الله عز وجل، لا من عند أنفسنا، وهذا فارق أخلاقي عظيم بين المؤمن والكافر في استعمال القوة.
ـ وقد شرع الإسلام من التشريعات السامية في التعامل مع الرعايا المسالمين غير المسلمين داخل بلاد المسلمين، واحترام العهود والمواثيق والذمم مع سائر الأمم، وتأمين السفير؛ ما يمثل أخلاقية راقية للمسلم في التعامل مع أهل الأرض جميعاً، لا مع أهل الإسلام فحسب.
ـ وقد منع الإسلام ظلم الكافر وتهمته بما لم يفعل، كما منعهما عن أهل الإيمان.

Go to top