العزلة والخلطة وأثرهما في تزكية النفس

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
الخلطة والعزلة
وكيف يستفاد منهما لتزكية النفس وتقوية الإيمان
النفس تميل إلى مخالطة الناس وتأنس بأحاديثهم، ولما كانت مجالس الناس منها ما هو نافع ومنها ما هو غير نافع ومنها ما هو ضار؛ فلا بد لطالب التزكية وزيادة الإيمان أن يحرص على الخلطة والمجالسة التي تنفعه، ويتجنب الخلطة والمجالسة التي تضره وتؤخره عن الخير، فتكون الخلطة لمقصد صحيح والعزلة لمقصد صحيح، وفيما يأتي بيان الضوابط الشرعية في هذه المسألة:
ـ الأصل في حياة المسلم أنه لا بد أن يكون فيها الخلطة والاجتماع والتعاون، لإقامة الخير، قال تعالى: ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ﴾ وقال: ﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾، وقال  صلى الله عليه و سلم : « المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم »(1) ، فالوضع الطبيعي أن يكون المسلم اجتماعياً مخالطاً لا منعزلاً.
ولكن هذا لا يعني أن يجعل كل وقته مع الناس، بل لا بد للمؤمن أن يجعل في كل يوم وقتاً يختلي فيه بربه، قال  صلى الله عليه و سلم ذاكراً من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: « ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه »(2) فحثنا في هذا على الخَلوة في ذكر الله، والنبي  صلى الله عليه و سلم كان له وقت وافر يخلو فيه مع ربه قال تعالى: ﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً ﴾، وكان لرسول الله  صلى الله عليه و سلم خلوته السنوية باعتكافه العشرَ الأواخر من رمضان، حيث كان يصلي مع الناس ولا يكاد يكلمهم ولا ينشغل بهم عن اعتكافه(3)، ولقد أمر الله نبيه بالانقطاع إلى الله في قوله: ﴿ وتبتل إليه تبتيلاً ﴾ أي انقطع إليه انقطاعاً، وإذا كان الانقطاع يمكن أن يكون انقطاعاً قلبياً دون الانقطاع الجسدي، فإن المبتدئ في طريق التزكية لا يستطيع أن ينقطع بقلبه عن الناس إلا مع الانقطاع الجسدي، فلزمه أن يعطي ذلك شيئاً كثيراً من وقته، فإنه ينتفع بذلك كثيراً.
وقد كان لرسول الله  صلى الله عليه و سلم فائدة عظمى بخلوته في غار حراء، وقد استمر على ذلك حيناً بعد بعثته، ولا شك أن المبتدئ يحتاج إلى مثل هذه الخلوات، وينتفع منها كثيراً، إذا أخذ بالاعتبار الضوابط الشرعية المتعلقة بذلك والتي سنذكرها.
ـ ومهما أراد الإنسان أن يعتزل الناس فإنه لا يستطيع العزلة الكلية، فحاجته إلى غيره تدفعه إلى الخلطة ولو قليلاً، فالله تعالى قد أَحْوَجَ الناسَ إلى بعضهم وسَخَّرهم لخدمة بعضهم، قال تعالى: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾ [الزخرف: 32].
ولا تجوز العزلة التامة الكاملة، لما فيها من تضييع الحقوق، كحقوق الإنفاق على الأهل والقرابة، ولما فيها من فوات بعض الواجبات والسنن، كصلة الرحم وعون المسلمين وحضور صلوات الجماعة.
ـ والواجب الشرعي أن نعيش وفق أمر الله، فحيثما كان أمر الشرع يقتضي الخلطة فهي الأفضل، وحيثما كان أمر الشرع يقتضي العزلة فهي الأفضل، وبذلك تكون الخلطةُ والعزلةُ تؤديان مقصداً شرعياً صحيحاً، وأثراً طيباً في تزكية النفس.
ـ قال  صلى الله عليه و سلم : « المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم »، ذكر النبي  صلى الله عليه و سلم صورتين في هذا الحديث، وفضل الصورة التي فيها خلطة على الأخرى، مما يدل على أن الأصل في حياة المسلم أن يخالط، وأن يكون على حال يستطيع معه الصبرَ على أذاهم، فلا بد أن يُرَقِّي الإنسان نفسه حتى يكون قادراً على الاختلاط بالناس مع التحمل وعدم التأثر.
والأذى المقصود في الحديث لا يختص بالأذى النفسي والجسدي الذي يقع على الإنسان في دنياه، وإنما يدخل فيه الأذى الديني، أي إضرارُهم بحالة الإنسان الدينية، وفتنته عن دينه أو عن طاعته، وقد أشارت نصوص أخرى إلى هذا المعنى بأن الإنسان يفر من الخلق فراراً بدينه من الفتنة.
والصالحون لا أذى منهم، بل خلطتهم فيها كل الخير والهدى، لذلك فلا عزلة عن الصالحين، بل بقدر ما يستطيع أن يخالط الضعيفُ المبتدئُ الصالحين بقدر ما يترقى وينتفع ويتزكى ويزداد إيماناً.
روى عبد الله بن عمرو أن النبي  صلى الله عليه و سلم ذكر الفتنة فقال  صلى الله عليه و سلم : « إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفَّت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله تبارك وتعالى فداك، قال: الزم بيتك، وابك على نفسك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة »(4).
وقال  صلى الله عليه و سلم : « إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لا يدان لك به فعليك خويصةَ نفسِك، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثلِ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون بمثل عمله »(5). وخاصة الإنسان وخويصة نفسه: هم أصحابه الذين يختصهم، فيتناصح معهم ويتعاون معهم على الحق والخير، ويتجنب من سواهم من العامة.
وسنبين أهمية الخلطة بالصالحين والشيوخ المربين بعد بيان أحكام العزلة والخلطة.   
والصور المحتملة في قضية الخلطة والعزلة ونفعهما وضررهما أربع صور نبينها ونبين حكمها:
الحديث الذي ذكرناه تحدث عن حالتين ولم يذكر حالتين، قال: « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم », وهناك حالتان متصورتان في الذهن يمكن أن توجدان في الواقع: الأولى: أن يخالط ولا يصبر، والثانية: أن لا يخالط الناس وهو قادر على أن يصبر, فهذه أربع حالات:
1. الحالة الأولى: أن يكون مخالطاً للناس وهو قادر على تحمل الفتنة والصبر على الأذى، وحكمه: أن الخلطة خير له، وله أجره في صبره وتحمله، وخير منه: من يتحمل ولا يتأثر بالشر والفتنة والباطل، ويكون قادراً على أن يؤثر في غيره، ويَدْعُوْهم ويردُّهم إلى الحق والخير والهدى.
2. الحالة الثانية: أن يكون مخالطاً للناس وهو غير قادر على تحمل الفتنة، فيتأثر بالباطل وأهله، ويتراجع حاله ويضعف إيمانه بالخلطة، وقد يؤذي غيره، وحُكْمُه: أن الخلطة شرٌّ له، فوجب عليه أن يقتصر على الحد الأدنى من الخلطة، فلا يخالط إلا قدر الضرورة.
ويجب على من يترك الخلطة أن يجعل عزلته في طاعة، لقوله  صلى الله عليه و سلم : « العبادة في الهرج كهجرة إليّ »(6)، والهرج: الفتنة أو القتل بغير حق، فليس المهم أن تعتزل الفتنة فقط، بل أن تكون في عزلتك هذه مشتغلاً بالعبادة، حتى تترقى وتزداد قرباً من الله وتزداد مراقبة لله وخوفاً منه وتعظيماً له ولحُكْمِه، فتصل إلى درجة القادر على أن يخالط الناس ويُؤَثِّرُ فيهم ولا يتأثر بأذاهم وفسادِهم، أما إذا لم يغتنم عزلته في الطاعة والعبادة والذكر والمجاهدة، فإنها لا تزيده إلا هوى وشهوة وبعداً عن الله، فمن لم تشغله الطاعة شغلته المعصية والشهوات، أو أخذه اللهو والغفلات.    
وأما من لا يقدر على الصبر مع المخالطة؛ فلا يجوز أن يقال له: يجب أن تخالط، لأن في ذلك هلاكَه وتراجعَ حالِه ونقصانَ تزكيته، فإن مخالطةَ الناس مع تضييع المقصد الصحيح غيرُ جائزة، كما أن العزلة عنهم لمقصد غير صحيح غير جائزة، فالخلطة لها مواضعها والعزلة لها مواضعها، وإن كان الأصل في الحياة هو الاتصال بالناس والخلطة معهم.
والنبي  صلى الله عليه و سلم قد تحدث عن هذه الحالة في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخُدريِّ  فقال: قال رَجُلُ أَيُّ النَّاسِ أفضَلُ يارسولَ الله ؟ قال  صلى الله عليه و سلم : « مُؤْمِنٌ مجَاهِدٌ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ في سبيل اللَّه » قال : ثم من ؟ قال : « ثم رَجُلٌ مُعتَزِلٌ في شِعْبٍ مِن الشِّعَاب يَعبُدُ رَبَّهِ »، وفي روايةٍ: « يتَّقِي الله، ويَدَع النَّاسِ مِن شَرّْهِ »(7).
والإنسان الذي يخالط ولا يصبر، فيُؤذي الناس ويُفسد، فالأَوْلى له أن لا يخالط، لكن لا يجوز له أن يبرر لنفسه أن يبقى على هذا الحال من عدم المخالطة، وإنما يُصلِح نفسه حتى يصير قادراً على المخالطة، ويزكي نفسه حتى يرتقى إلى أن يصير قدوة وداعية.
3. الحالة الثالثة: أن يكون معتزلاً للناس وهو لو خالطهم يصبر ولا يتأذى ولا ينقص إيمانه، فحكمه: أن الخلطة خير له وأعظم أجراً، وتكون سبباً في نفع غيره، ومن كان كذلك فالأولى في حقه الخلطة، وعليه أن يجتهد جهده في الدعوة إلى الله والتأثير في غيره بالخير، إن كان قادراً على ذلك.
لكن لا يجوز أن تكون الخلطة في كل وقت فتصير على حساب الواجبات الفردية وعلى حساب الأعمال التي تقوي إيمان الإنسان وتثبته؛ من النوافل والأعمال الصالحة في الأوقات المباركة وفي غيرها، فالنبي  صلى الله عليه و سلم رغم دعوته وجهاده لم يشغله ذلك عن قيامه من الليل ولا عن تلاواته ولا عن خلواته اليومية، لذلك أمره الله أن يعتذر من أصحابه ليؤدي هذه العبادات الخاصة في خلواته، فقال سبحانه: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً ﴾ [الإسراء: 28].
4. الحالة الرابعة: أن يكون معتزلاً للناس وهو لا يصبر على أذاهم ويتأثر في دينه وينقص، فحكمه: أن العزلة خير له، حتى لا يأثم، بسبب عدم صبره ونقصانِ إيمانه ووجودِ ما يدفعه إلى المعاصي، وعليه أن يجتهد في عزلته في العبادة، كما بينّا، عسى أن يرقى إلى أن يصير كالأول مُؤثِّراً لا مُتأثِّراً.
ـ وعلى طالب التزكية أن يجتنب كل مجلس يكون على حساب خيره وصلاح نفسه، فإذا كانت مجالسة الناس فيما لا ينفع على حساب الطاعة والعلم والذكر وقيام الليل، فينبغي اجتنابها، اغتناماً للعمر وأوقاته، ويقتصر في مجالس الناس التي يُضطَر إليها على الحد القليل، ولا يطيل فيها ما استطاع، ومن لم يغتنم وقته وأضاع عمره بزيارة غير نافعة هنا وهناك؛ لم يجد وقتاً لطلب علم ولا لقيام ليل ولا لذكر، خاصة مع قلة بركة الوقت في زماننا.
وقد بين النبي  صلى الله عليه و سلم لمن كان يُفتن في دينه إذا خالط الناس أن عليه أن يعتزل أسباب الفتنة، ولو أن يتخذ البادية بدل المدينة مسكناً وموطناً، فقال  صلى الله عليه و سلم : « يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواطن القطر(8)، يفر بدينه من الفتن »(9).
وخلاصة الأمر التي نستنتجها من النصوص السابقة الواردة في شأن الخلطة والعزلة؛ أن على طالب التزكية المبتدئ أن يترك صحبة الأشرار ومجالس السوء، ويقلل الاختلاط بالناس إلا لضرورة، ويقلل الزيارات ويقصِّر وقتها، ويحرص على زيارة الصالحين ومجالس الخير والعلم، ويقلِّل العلاقات الاجتماعية قدر الإمكان، ويجتهد فيما وجد من أوقات في الطاعة والذكر والتفكر والتقرب إلى الله.
فائدة قلة الخلطة بالناس للمبتدئ:
من أعظم الفوائد من قلة خلطة الطالب لتزكية نفسه أنها تهيئ الجو المناسب للتفكر، بحيث يتفكر في نفسه وحق ربه وإعداده لآخرته، فلا يبقى على عاداته من غير أن يعرف ما ينفعه وما لا ينفعه، وتهيئ الجو للاجتهاد في الطاعة، وتعين على التجرد عن أسباب الشهوة والأمراض القلبية والمعاصي، وتبعد عن الشواغل والقواطع والعلائق والهموم، التي تَحُولُ دون ترقِّي الإنسان، وتمنعُ قوة التعلق بالله.
فالمبتدئ إذا كثر اختلاطه بالمجتمع والبيئة المريضة؛ لا يزال يقع في المعاصي والغفلة، فيزداد بعداً عن الله، ويُحال بينه وبين الخير والطاعة والتوبة، أو يَطول عليه الطريق ويصعب ويجاهد نفسه كثيراً ويكبو.
ومثال الذي يقلل خلطته والذي لا يقلل من الخلطة مع لزومها له: كمثل الطالب الذي يتخصص في علم من العلوم، فالطالب يبقى في غمرته وخلوته، منشغلاً بدراسته، لا يقول تعلمتُ قليلاً فيجب أن أشتَغِل بتعليم غيري من علمي القليل، فإنه إن فعل ذلك ضَعُف طَلَبُه للعلم أو توقَّف، وكان خيره لنفسه ولمجتمعه قليلاً فيما لو قارنّاه بخير من اعتزل تدريس الناس حتى أتم دراسته، ثم نَفَعَهم بعلم واسع ودراية كاملة.
وكذلك الذي يتفرغ لتزكية النفس ولتحصيل مقام الإحسان، ويخفف علاقاته لأجل العلم والعبادة والتقرب إلى الله، فالمتوقع أنه يكون نفعه بعد خروجه إلى الناس عظيماً، بعدما يستتمُّ علاج أمراض قلبه ويتزكى من معاصيه ويستقيمُ على طاعاته.
ـ ولا ينبغي أن تؤدي قلة الخلطة إلى ترك النصيحة للمسلمين، وإلى ترك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وجد طالب التزكية قدرة على هذه الأمور فليفعل، إن كان أهلاً لذلك في علمه وحكمته وشجاعته، قال تعالى ذاكراً قول نبيه  صلى الله عليه و سلم :  ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، ولا ينبغي أن تكون هذه الأمور على حساب إصلاح نفسه، فواجب إصلاح النفس مقدم على إصلاح الغير لقوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وإن استطاع الجمع بين إصلاح نفسه وإصلاح غيره فلا ينبغي أن يتعلَّل بإصلاح نفسه.
ومن اشتغل بإصلاح نفسه وإحياء قلبه أهَّلَه الله بعد ذلك لأن يكون داعية ومصلحاً في الناس، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، فإذا حصلت الحياة في قلب مؤمن كان أهلاً لأن يجعل الله له نوراً وبصيرة يمشي بها في الناس ويدلهم وينير لهم طريقهم.
الخلطة بالشيوخ المربين والصالحين وصحبتهم
أمرنا الله تعالى بصحبة الصالحين والصادقين، وحثنا على صحبة الأتقياء المحتكمين إلى حكم الله، يعرفوننا على الله ونتعلم منهم ديننا ويرشدوننا إلى الحق والتزكية، قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ﴾، فأمرنا بأن نكون مع الصادقين، وإنما نكون معهم بمجالستهم والأخذ عنهم والتعاون معهم على الخير والحق.
وقال سبحانه: ﴿ واتبع سبيل من أناب إليّ ﴾، فأمرنا أن نجعل كل من رجع إلى الله وإلى أحكامه محلاً نتبعه ونقتدي به ونأخذ عنه ونقلده فيما اتبع فيه الحق وفيما أناب فيه إلى الله وإلى أحكامه.
وقال عز وجل: ﴿ الرحمن فاسأل به خبيراً ﴾، فأمرنا أن نتعرف على الله من خلال سؤال الخبيراء العارفين بالله وبصفاته.
وقال سبحانه: ﴿ من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ﴾، فبين في هذه الآية أن أقدر الناس على الهداية من كان من أهل الولاية والصلاح والعلم والإرشاد، فالضال لا يستطيع أقدر الناس على الهداية أن يهديه، أما من يريد الهداية فسيجد في هؤلاء الأولياء المرشدين سبباً ووسيلة للوصول إلى الهداية، بعد إرادة الله وتوفيقه وهدايته.
وقد أخذ الصحابة العلم عن النبي  صلى الله عليه و سلم ، وأخذ التابعون عن الصحابة، فمن السنة الشرعية أن يأخذ الإنسان العلم والتربية عن أهلها جيلاً عن جيل.
وإذا كانت علوم الدنيا وأعمالها تحتاج إلى معلم، فكيف بمن يطلب طب النفوس، ومعرفة الله العظيم، أفلا يحتاج إلى معلم ومربٍّ.
وقد أُمِر النبي  صلى الله عليه و سلم بأن يصبر على صحبة أصحابه الصادقين: ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم ﴾، والصالحون والعلماء الوارثون النائبون عن رسول الله  صلى الله عليه و سلم ينبغي أن يصبروا كذلك على تلامذتهم في تعليمهم وتربيتهم.
وقد أُمِر المؤمنون الصادقون بصحبة أهل الإيمان « لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي »(10)، كما أمروا بأن يبتعدوا عن صحبة الأشرار والغافلين الذين أرادوا الدنيا بدل الآخرة: ﴿ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم ﴾، وقد أمرنا بالخروج من مجالس من يخوض في الباطل، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[الأنعام: 68].

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستقامة على أمره، وأن يدلّنا على الصالحين، وينفعنا بصحبتهم، ونسأله أن يجعلنا من الصادقين ومعهم، إنه حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.   

 

Go to top