المهدي


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
المهدي
وحكم ترك العمل للدين انتظاراً له
تعلمون جميعاً أن النبي  صلى الله عليه و سلم بين أن عرى الإسلام تنتقض عروة عروة ، وأنه بين أن الإسلام يعود غريباً كما بدأ غريباً ، وأن الأجيال كلما تعاقبت بعدت عن نبع الإسلام ، ودخلها شيء من الجهل أو الضلال أو الانحراف ، أو على الأقل أصابها الضعف في صلاحها والتزامها ، ويضاف إلى الجهل والانحراف ؛ الإحباط الذي أصاب كثيراً من أفراد الأمة الإسلامية ـ في هذه الأيام ـ نتيجة ضعفها وتسلط أعدائها عليها ، كل ذلك أوجد جهالات وقلة علم ؛ حرفت كثيراً من الناس عن العلم الصحيح وعن طريق الاستقامة ، ومن تلك الجهالات التي أصابت كثيراً من الناس : كيفية التعامل مع قضية المهدي من الناحية العلمية، ومن الناحية العملية ، فأما من الناحية العلمية فإن أحاديث المهدي كثيرة جداً تزيد على الثلاثمائة في كتب أهل السنة، لكنه لا يصح منه إلا أحاديث قليلة لا تزيد على العشرين، وقد كان من عادة المحدثين أن يرووا في كتبهم كل ما وصل إلى أسماعهم ، بغض النظر عن صحته أو صحة إسناده ، إلا قليلاً من العلماء الذين اشترطوا على أنفسهم أن لا يذكروا في كتبهم إلا الصحيح : كالبخاري ومسلم ، والبخاري ومسلم لم يذكرا ولا حديثاً واحداً يصرح بذكر المهدي الذي يأتي في آخر الزمان ، وإنما فيهما إشارات إلى رجل من آل بيت النبي  صلى الله عليه و سلم يحكم الناس بالعدل بعدما يكون الظلم قد عم وطم ، وأن رجلاً يحتمي بالبيت الحرام فيُبعث إليه بجيش يقاتله فيَخسف الله بهم في بيداء ، منطقة كالصحراء لا سكن فيها .
بينما تجد في غيرهما من الكتب أحاديث كثيرة ، وكون الحديث ورد في مسند أحمد أو سنن أبي داود أو سنن النسائي أو ابن ماجة أو غيرهم ممن لم يشترط صحة الأحاديث ؛ لا يعني صحة الحديث ، خاصة في مثل هذه المسألة التي كانت مجالاً للكذابين الذين كانوا يتزيون بزي العلماء والوعاظ ، أو الرواة الذين كانوا يكثرون من الرواية في مثل هذه الأمور من غير تحرٍّ ولا تحقق من صحة شيء منها ـ كما فعل نعيم بن حماد شيخ البخاري في كتابه الفتن ـ وأغلب كتب الفتن والملاحم على ذلك ، فلأجل ذلك لم يصح من أحاديث المهدي إلا القليل ـ كما يعرف ذلك من اشتغل بعلم الحديث ، حتى قال بعضهم : كل ما ورد صريحاً في المهدي ، فليس بصحيح ، وما ورد غير صريح فهو صحيح ، وكان من أسباب التساهل في رواية هذه الأحاديث أنها تتكلم عن الفتن وآخر الزمان ؛ فهي تحمل على الخوف من الفتن ، وتدفع إلى الاجتهاد في الطاعة والعبادة ؛ لنكون في منجىً عن الفتن إذا جاءت .
لكن هذا الأمر آل إلى غير المراد من الناحية العملية ؛ فبدلاً من أن تَحمِل تلك الأحاديث على مزيد من التقرب إلى الله ، صارت سبباً في التقاعس عن العمل للإسلام والعمل لعزة الإسلام ، وصارت سبباً في انتظار المجهول الذي لا يُدرَى متى يكون ، خاصة وأن أهل الحديث يؤكدون أنه لا يصح في علامات ظهور المهدي حديث ، وحتى تلك العلامات التي وردت في أحاديث ضعيفة وموضوعة فإنها محتملة لا يستطيع الإنسان أن يجزم بوقوعها في هذا الزمن أو بعد ألف سنة أو قبل ذلك ، وقد قرأنا لبعض العلماء السابقين قبل مائة وقبل خمسمائة سنة وقبل ذلك وبعده ، يذكرون المهدي ويذكرون انطباق علامات ظهوره على زمانهم ، حتى كانوا ينتظرونه كما ينتظره كثير من الناس اليوم، وراحت الأيام ولم يأت المهدي ، وربما تروح أيامنا ولا نراه . . وقد نراه . . فلا ينبغي أن يحملنا إيماننا بأن الله سيأتي برجل صالح من آل بيت رسوله  صلى الله عليه و سلم يحكمنا بالعدل على عدم العمل للإسلام، ولا يحملنا على الانتظار ونحن لا ندري متى يكون، فإن الغيب لله.
والمهدي على ما تدل الروايات ـ بغض النظر عن صحتها أو ضعفها ـ سيحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً ـ فهل تقعد الأمة تتفرج على نفسها وتركن إلى عدوها فيما عدا ذلك من تاربخ الأمة الإسلامية ، إن مَثَل انتظارنا للمهدي ، كرجل تاجر عمره ثلاثون سنة ، قيل له ستكون لك صفقة عظيمة حينما سيكون عمرك سبعين سنة ـ إن عشت إليها ، فهل يقعد ولا يعمل ويعيش الفقر والعذاب والضنك ؟ وقد لا يبلغ السبعين ؟ أم يعمل للسنين هذه ـ حتى إذا ما بلغ السبعين جاءته صفقته العظيمة ، وكذلك هذه الأمة إذا كانت ستكرَم بالمهدي ، فليس معنى ذلك أن نتخلف عن أمر الله بالعمل لدينه في غير تلك المرحلة .
أين أمر الله بالعمل لدينه ، والدعوة إليه ، والجهاد في سبيله ،  إن رسول الله  صلى الله عليه و سلم ما حدثنا بالمهدي لنترك العمل لديننا ، وإنما هي بشرى تبعث الآمال ، كما تورث اليقين إذا حصل ذلك ، فلا نتخلف عن نصرته إذا تبين لنا أنه هو الموعود .
وعند ظهور المهدي فلن يكون المهدي ممن يركن إلى الغيب والمجهول، بل سيكون حكمه وانتصاره نتيجة إعداد وعمل يتعاون فيه مع الصالحين والعلماء والعاملين لدينهم ، كما كان رسولنا  صلى الله عليه و سلم يعد الأسباب ويعمل لنصرة الدين ويتحمل لأجل ذلك، فليس المهدي على خلاف سنته وسيرته.
إن التقاعس عن نصرة الدين وعن فروض الدين العينية والكفائية؛ بدعوى أن المهدي قد قَرُبَ زمانه، وأنه لن يستطيع إقامة الدين والحكم بشرع الله إلا المهدي، هذا التقاعس خطأٌ كبير وجريمة كبرى في حق الدين، ولعل أعداء الله يروجون هذا الاتجاه في بعض أبناء المسلمين ليكون ذلك سبباً في تقاعد المسلمين عن العمل لإقامة شرع الله وحكمه، وهو مخالفة صريحة لمنهجية الإسلام ولأمر الله، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وقال: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
فواجبنا أن نعمل للدين ونجتهد في صلاح أنفسنا، فإن لم ندرك زمن المهدي فقد نلنا خيراً، وإن أدركنا زمن المهدي فعسى أن يرانا من الصالحين العاملين فيقبلنا من جنده، ونكون عوناً له في نصرة الدين وتمكينه.
ـ ولا زال الناس يسمعون بين الحين والآخر عن أدعياء يدعون المهدية، وبعضهم يظن فيه الصلاح، وقد داخله الوهم في دعواه، وبعضهم لا يرى عليه أثر الصلاح، ومنهم من مات ولم يظهر، ومنهم من مضى الزمن الذي ادعى أنه سيظهر فيه ولم يظهر، وقد تتبع أحد الناس هؤلاء الأدعياء في بلده، فعَلِم بخمسين رجلاً يدعون المهدية في بلده فقط، والتقى منهم خمسة وثلاثين، فإذا كان هذا في بلد واحد، فما بالك بالكذابين والمتوهمين في العالم كله، فلا ينبغي أن يكون أحدنا غراً سهلاً أن ينقاد للخزعبلات والافتراءات والأوهام والدعاوى.
وبعض الناس يرى رؤيا صالحة مبشرة، فيظنها وهماً أنها تدل على أنه هو أو غيره المهدي، والمنامات لا تؤخذ على ظاهرها، وعند تأويلها يمكن أن يقع الخطأ، فلا يجوز أن يبنى على تأويلها، ويجعل منه عقيدة نلزم بها الناس في اتباع فلان أو فلان أو اعتقاد أنه المهدي.
علماً أن كل مؤمن هو مهدي من الله تعالى، قال تعالى: ﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾، وقال النبي  صلى الله عليه و سلم لجرير بن عبد الله البجلي  حينما شكا إليه أنه لا يثبت على الخيل، فضرب  صلى الله عليه و سلم بيده في صدره، وقال: الله ثبته، واجعله هادياً مهدياً » رواه البخاري ومسلم، ودعا النبي  صلى الله عليه و سلم حينما دخل على أبي سلمة وقد مات: « اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عَقِبه في الغابرين ... » رواه مسلم وأبو داود.
أهم الأحاديث الصحيحة والحسنة الواردة في المهدي
1. عن أبي سعيد الخدري  قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه و سلم يقول: « المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جَوْراً وظلماً، يملك سبع سنين »(1).
2. عن ابن مسعود  عن النبي  صلى الله عليه و سلم قال: « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي، يواطىء اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي » وزاد في رواية: « يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجَوْراً »(2).
3. عن أبي هريرة  عن النبي  صلى الله عليه و سلم قال: « يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلا فثمان، وإلا فتسع، تنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا مثلها، يرسل الله السماء عليهم مدراراً، ولا تدخر الأرض شيئاً من النبات، والمالُ كُدُوس، يقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، فيقول: خذه »(3).
4. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله  صلى الله عليه و سلم يقول: « المهدي من عترتي، من ولد فاطمة »(4).
ـ وهناك أحاديث لم تسمّه بالمهدي، يمكن أن يكون المقصود بها المهدي، ويمكن أن يكون المقصود بها رجلاً آخر، فلا يجوز التعلق بها في قضية المهدي، وقد استدل كثير من الناس بمثل هذه الأحاديث فربطوها بقضية المهدي، وليس هناك دليل قوي صريح يدل على حملها على المهدي، ومن هذه الأحاديث:
1. عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله  صلى الله عليه و سلم : « من خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً، لا يعدُّه عَدّاً »(5).
2. عن عبد الله بن مسعود  عن النبي  صلى الله عليه و سلم قال: « يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي »(6)، وعن ابن مسعود أيضاً قال  صلى الله عليه و سلم : « لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي »(7).
3. عن أبي هريرة  أن رسول الله  صلى الله عليه و سلم قال: « كيف أنتم إذا نزل ابن مريم وإمامكم منكم »(8).
4. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله  صلى الله عليه و سلم : « يعوذ عائذ بالبيت، فيُبعَث إليه بعثٌ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض؛ خُسِف بهم »(9).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

Go to top